الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشعراوي: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا}كلمة {وسوس} تدل على الهمس في الإغواء، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شرّ فيهمس خوفًا من أن يفضحه أحد، وكأن كل شر لابد أن يأتي همسًا، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث، ويستحي منه، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء، و{وسوس} مأخوذة من الصوت المغري، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغرٍ ليلفتهما عن أوامر رب حكيم.وقوله الحق: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} يعطينا حيثيات البراءة لحواء؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معًا. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا}. [الأعراف: 20]وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما ووري من سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله؟. لقد وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية، ويعلم أنهما حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سواءتهما، والسوءة هي ما يسوء النظر إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى الإِنسان المكتمل الإِنسانية السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا}.والسوءات أربع: اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام معقول جدًّا. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: «ما رأيت ولا أرى مني»، وفي هذا القول تتجلّى قمة الأدب لأنها لم تجيء حتى باللفظ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين»، تعجبت السيدة عائشة فقال لها: «الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد» {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20]وبماذا ووري؟. لابد أن هناك لباسًا كان على كل منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس، فمن قائل: إن أظافر الإِنسان هي بقية اللباس الذي كان موجودًا عند آدم وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال: إنّ أيّ إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط، ويريد أن يكتم نَفْسه، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة.وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا من عمل الإِله.أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإِلهي الذي كان يلفهما، والنور الساطع جدًّا حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمَّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها؛ لأن أي أمر إذا زاد على حدّه انقلب إلى ضده، فإما أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور الإِلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة، وقد سميت سوءة وعورة، لأنها تسوء، فلماذا تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين: فتحة في الفم، وفتحة في العورة؟.إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا- كما قلنا- في حاجة إلى إخراج فضلات؛ لأن إعداد الله يعطي كُلًا منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية؟نعم؛ لأن كل شيء يُخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجًا من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة: {وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20]لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق: أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير مَلَكًا، أو خالدًا. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفًا واهيًا وغبيًا؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكًا أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله مَلَكًا أو خالدًا؟ وفي هذا درس يبين لنا أن مَن يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإِغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.وإذا كان الشيطان قد قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14]فلماذا لم ينقذ نفسه بالأكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة؟. إذن كان ما يقوله الشيطان كذبًا. اهـ..التفسير المأثور: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس قال: نهى الله آدم وحوّاء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حوّاء ووسوس إلى آدم فقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، فقطعت حوّاء الشجرة فدميت الشجرة وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدوّ مبين}، لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحوّاء: لم أطعمتيه؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعون مدحور، أما أنت ياحوّاء كما أدميت الشجرة تدمين في كل هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جرًا على وجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ.وأخرج ابن المنذر عن أبي غنيم سعيد بن حدين الحضرمي قال: لما أسكن الله آدم وحوّاء الجنة خرج آدم يطوف في الجنة، فاغتنم إبليس غيبته فأقبل حتى بلغ المكان الذي فيه حوّاء، فصفر بقصبة معه صفيرًا سمعته حواء، وبينها وبينه سبعون قبة بعضها في جوف بعض، فأشرفت حواء عليه فجعل يصفر صفيرًا لم يسمع السامعون بمثله من اللذة والشهوة والسماع حتى ما بقي من حواء عضو مع آخر إلا تخلج، فقالت: أنشدك بالله العظيم لما أقصرت عني فإنك قد أهلكتني، فنزع القصبة ثم قلبها فصفر صفيرًا آخر، فجاش البكاء والنوح والحزن بشيء لم يسمع السامعون بمثله حتى قطع فؤادها بالحزن والبكاء، فقالت: أنشدك بالله العظيم لما أقصرت عني، ففعل فقالت له: ما هذا الذي جئت به؟ أخذتني بأمر الفرح وأخذتني بأمر الحزن. قال: ذكرت منزلتكما من الجنة وكرامة الله إياكما ففرحت لكما بمكانكما، وذكرت إنكما تخرجان منها فبكيت لكما وحزنت عليكما، ألم يقل لكما ربكما متى تأكلان من هذه الشجرة تموتان وتخرجان منها؟ أنظري إليّ يا حواء، فإذا أنا أكلتها فإن أنا مت أو تغير من خلقي شيء فلا تأكلا منها، أقسم لكما بالله إني لكما من الناصحين. فانطلق إبليس حتى تناول من تلك الشجرة فأكل منها، وجعل يقول: يا حواء انظري هل تغير من خلقي شيء أم هل مت قد أخبرتك ما أخبرتك. ثم أدبر منطلقًا.وأقبل آدم من مكانه الذي كان يطوف به من الجنة فوجدها منكبة على وجهها حزينة، فقال لها آدم: ما شأنك...؟! قالت أتاني الناصح المشفق قال: ويحك...! لعله إبليس الذي حذرناه الله؟ قالت: يا آدم والله لقد مضى إلى الشجرة فأكل منها وأنا أنظر فما مات ولا تغير من جسده شيء، فلم تزل به تدليه بالغرور حتى مضى آدم وحواء إلى الشجرة، فأهوى آدم بيده إلى الثمرة ليأخذها، فناداه جميع شجر الجنة: يا آدم لا تأكلها فإنك إن أكلتها تخرج منها، فعزم آدم على المعصية فأخذ ليتناول الشجرة، فجعلت الشجرة تتطاول ثم جعل يمدّ يده ليأخذها، فلما وضع يده على الثمرة اشتدت، فلما رأى الله منه العزم على المعصية أخذها وأكل منها، وناول حواء فأكلت، فسقط منها لباس الجمال الذي كان عليها في الجنة، وبدت لهما سوءاتهما، وابتدرا يستكنان بورق الجنة يخصفان عليهما من ورق الجنة ويعلم الله يُنظر أيهما.فأقبل الرب في الجنة فقال: يا آدم أين أنت أخرج؟ قال: يا رب أنا ذا أستحي أخرج إليك. قال: فلعلك أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: يا رب هذه التي جعلتها معي أغوتني. قال: فمتى تختبئ يا آدم؟ أو لم تعلم أن كل شيء لم يا آدم، وأنه لا يخفى عليّ شيء في ظلمة ولا في نهار؟ قال: فبعث إليهما ملائكة يدفعان في رقابهما حتى أخرجوهما من الجنة، فأوقفا عريانين وإبليس معهما بين يدي الله، فعند ذلك قضى عليهما وعلى إبليس ما قضى، وعند ذلك أهبط إبليس معهما، وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، وأهبطوا جميعًا.وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن وهب بن منبه في قوله: {ليبدي لهما ما وُوريَ عنهما من سوءاتهما} قال: كان على كل واحد منهما نور لا يبصر كل واحد منهما عورة صاحبه، فلما أصابا الخطيئة نزع منهما.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: ليهتك لباسهما وكان قد علم أن لهما سوءة لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك، وكان لباسهما الظفر.وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتاهما إبليس قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين تكونا مثله يعني مثل الله عز وجل فلم يصدقاه حتى دخل في جوف الحية فكلمهما.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ {إلا أن تكونا ملكين} بكسر اللام.وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه كان يقرأ {الا أن تكونا ملكين} بنصب اللام من الملائكة.وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: {إلا أن تكونا ملكين} قال: ذكر تفضيل الملائكة فضلوا بالصور، وفضلوا بالأجنحة، وفضلوا بالكرامة.وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: إن في الجنة شجرة لها غصنان أحدهما تطوف به الملائكة، والآخر قوله: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} يعني الملائكة الذين يطوفون بذلك الغصن.وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس. أنه كان يقرأ هذه الآية {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} فإن أخطأكما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا خالدين، فلا تموتان فيها أبدًا. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {فوَسْوَسَ لَهُمَا} أي: فَعَلَ الوَسْوَسَةَ لأجلهما.والفَرْقُ بين وسْوَسَ له وَوسْوَسَ إليه أنَّ وَسْوَسَ له بمعنى لأجله كما تقدَّم، وَوَسْوَسَ إليه ألْقَى إلَيْه الوَسْوَسَةَ.
|